14 مايو 2025, الأربعاء

بـــيـــن الـــوطـــن والمــهــجــر: رحــلــــة الــبــحــــث عــــن الــهـــويــة الـثــقــافـيــة

  • تحرير: مهند أبوسريع
  • تصوير: جنى وليد

“ولدتُ في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأي هذه البلدان أنتمي، وعن أي هذه البلدان أدافع؟”

بهذه الكلمات عبرت الأديبة مي زيادة عن حيرة الانتماء، في زمن كان العالم فيه أقل ترحالًا مما هو عليه اليوم. جاء ذلك في فصل بعنوان “أين وطني؟” من كتابها ظلمات وأشعة، الذي نُشر عام ١٩٢٣ بعد تقسيم بلاد الشام بموجب اتفاقية سايكس بيكو.

في عالم تتزايد فيه أعداد المهاجرين، لم يعد الوطن مجرد قطعة أرض، أو لغة، أو جواز سفر، بل بات شعورًا معقدًا يتشكل من الذكريات، والتجارب، والانتماءات المتعددة. وبين الوطن والمهجر، يجد كثيرون أنفسهم في حالة من الحصار بين ثقافتين، مما يدفعهم إلى إعادة تعريف هويتهم الثقافية.

وفقًا لهيئة السكان التابعة لإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة، تزايد أعداد الأشخاص الذين يعيشون في بلدان غير بلدهم  إلى مستويات غير مسبوقة.

 فقد بلغ عدد المهاجرين الدوليين في العالم ٣٠٤ مليونًا عام ٢٠٢٤، مشكلين ٣.٧ في المائة من سكان العالم، علمًا بأن هذا الرقم تضاعف تقريبًا منذ عام ١٩٩٠، حين قُدر عددهم حينذاك بنحو ١٥٤ مليونًا.

تختلف تجارب المهاجرين في تعريف هويتهم الثقافية حسب خلفياتهم الثقافية والاجتماعية، والبلدان التي عاشوا فيها، لكن القاسم المشترك بينهم هو الصراع المستمر لإيجاد توازن بين ثقافة بلدهم الأصلي وبلدهم المضيف.

عبرت مريم يعقوبي، جزائرية الأصل، مصرية وإماراتية المنشأ، وتدرس الآن في القاهرة، عن كيفية تعريف هويتها الثقافية قائلة: “لا أُعرف نفسي كجزائرية تمامًا، لأن منشئي ليس جزائريًا، ولكن من حيث المبدأ، أقول إنني جزائرية”.

وعن شعورها بالانتماء الأكبر إلى بلدها الأصلي أم بالبلد الذي تعيش فيه الآن، تقول مريم إن الأماكن المختلفة التي عاشت ونشأت فيها تتداخل لتُشكل مزيجًا ثقافيًا. وأضافت: “أعتقد أنني أشعر بالارتباط بالثقافتين المصرية والجزائرية، فقد عشت في مصر لسنوات عديدة، وأزور الجزائر كثيرًا وأحافظ على تواصلي.”

وتشاركها  فرح الشامي، مصرية تعيش في كندا، في فكرة امتزاج ثقافتي بلدها الذي نشأت فيه، والبلد الذي تعيش فيه، ففي الوقت الذي تشعر فيه أن مصر هي وطنها الذي ترتبط بثقافته، إلا أن حياتها في كندا قد شكلت طريقة تفكيرها مع العالم، وتعبر عن هذا الارتباك بين الثقافتين قائلة: “أحيانًا أشعر بأنني “غربية” جدًا في الأماكن المصرية، و”شرقية” جدًا في الأماكن الغربية”.

وترى أن الذين عاشوا مثلها بين ثقافتين يواجهون تحديات صعبة سواء أثناء محاولة الاحتفاظ بجذورهم أو محاولة الاندماج في مجتمع الهجرة، وهو التحدي الذي تؤكّد عليه الدكتورة منة خليل، أستاذة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، التي ترى أن المهاجرين يخوضون رحلة معقدة في محاولة التوفيق بين هويتهم الأصلية ومتطلبات الاندماج في المجتمع المضيف.

هذا التحدي المتمثل في محاولتهم التوفيق بين خلفيتهم الأصلية وخلفية البلد  المُضيف، ترى الدكتورة منة أنه يشمل عادةً  أكثر جوانب الحياة إلحاحًا، مثل التعليم والعمل وتكوين العلاقات، مما يجعل من الصعب الحفاظ على هوية متماسكة،  ولا يقتصر على التكيف السطحي، بل يمتد إلى صراعات هوية عميقة قد تجعلهم يشعرون وكأنهم لا ينتمون بالكامل لأي جهة.

تجربة الهجرة والعيش بين ثقافتين طالما كانت مثار اهتمام للباحثين والمراقبين، فيعتقد سيرجيو دي لا توري، خبير في قضايا الهجرة والسياحة والهويات العابرة للحدود الوطنية، أن تجربة الهجرة تعيد تشكيل معنى “الوطن” للمهاجرين  بطرق متعددة، بحسب خلفيات وأسباب التنقل.

فمن خلال تجربته الشخصية حيث نشأ على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، فقد تشكل فهمه للوطن بشكل مختلف، إذ اعتاد على بلدين، ولغتين، وثقافتين، ولكنه برغم ذلك يرى نفسه مكسيكيا رغم أنه عاش أكثر من نصف حياته في الولايات المتحدة، ورغم ذلك فعندما يزور المكسيك يتعامل معه الناس باعتباره أجنبي.

كثير من الناس اليوم يعيشون بين ثقافتين أو أكثر، ويحاولون أن يجدوا توازنًا بين ما تربّوا عليه وما يعيشه من حولهم. لا توجد إجابة واحدة عن سؤال الهوية الثقافية للمهاجرين، فكل تجربة مختلفة، وكل شخص يبني وطنه بطريقته الخاصة. وفي هذا العالم المتغير، قد يكون السؤال الأهم: كيف يكون المهاجرون أنفسهم وسط كل هذا التعدد، دون أن يفقدوا جزءًا منهم في الطريق؟