- تقرير: دانيا العجوري
في الفترة الأخيرة، تكرّر الحديث عن موقف لافت وقع في شركة مايكروسوفت حين قررت إحدى موظفاتها، ابتهال أبو السعد، الاعتراض على ممارسات الشركة خلال أحد أهم مؤتمراتها، والذي أُقيم احتفالًا بالذكرى الخمسين لتأسيسها. فاجأت ابتهال الحضور حين قاطعت كلمة أحد كبار مسؤولي الشركة، قائلة: “أنت من تجّار الحرب، توقّف عن استخدام الذكاء الاصطناعي في الإبادة الجماعية.” وفي البداية، لم يكن لدي رأي محدد عن هذه الواقعة ولكن سرعان ما لاحظت أن معظم من حولي من عائلة واصدقاء كانوا مؤيدين لما فعلته ابتهال، بل البعد منهم ايضًا رأوه كعمل شجاع يجب أن نمتثل به.
بعد ملاحظتي لردة الفعل الإيجابي لهذا الموقف وبعد أن أطلعت أكثر على الموقف، بدأت أن أقتنع بما فعلته ابتهال وأصبحت فخورة بوجود مثال قوي لشخصية عربية قررت أن لا تتواطأ مع شركتها في جرائمهم فقط لأنها خائفة من تأثير هذا على مستقبلها. ولذلك وجدت نفسي متفاجأة بشدة عندما قال أحد أساتذتي في الجامعة أن ابتهال لم تتصرف بالشكل المناسب وأن تصرفها هذا كان من الممكن أن يكون أذكى اذا أخذت في اعتبارها السياق التي تعمل به و إذا فكرت جيدا في عواقب أفعالها. بعد سماعي لرأي هذا الأستاذ بدأت أن اتسأل هل من الممكن حقا أن نلوم ابتهال على ما فعلته؟ هل أخطأت بفعلها هذا؟
بدأت أن استكشف منظور استاذي والآخرين غيره. في نهاية اليوم هي موظفة بهذه الشركة وهو واجب من ابسط واجباتها أن تحترم بيئة عملها وأن تمتثل لقوانين العمل. وفي نهاية اليوم كان هذا المتحدث مديرها واحراجه بهذه الطريقة في منتصف المؤتمر لم يكن فعلا مهنيا يليق بمنصب ابتهال في تلك الشركة المهمة. فكما أن أخلاق ابتهال لم تسمح لها أن تتواطأ مع ممارسات تلك الشركة كان يجب أن تحثها أخلاقها المهنية على الالتزام والامتثال لقوانين الشركة وقراراتها. بعد أن فكرت فكل هذه الجوانب، حضر هذا السؤال في ذهني: هل الامتثال في بعد الاحيان تواطئ؟
وعندها تذكرت إحدى الدراسات التي تعلمتها وقرأت عنها في إحدى دروس علم النفس. فكانت هذه الدراسة عبارة عن تجربة نفسية واجتماعية قام بتنفيذها العالم النفسي الأمريكي ستانلي ميلجرام. واشتهرت تلك التجربة لكونها من أول الاثباتات أن الامتثال يمكنه التحول لتواطئ حتى وأن كان سهوًا أو من غير عمد. وقد أُجري هذا الاختبار في عام 1961، أي بعد عام واحد من محاكمة أدولف آيخمان، أحد المنظّمين الرئيسيين للهولوكوست النازي. كان هدف ميلجرام من هذه التجربة هو استكشاف أسباب طاعة الألمان الذين عملوا في النظام النازية: هل كانوا مجرد عبيد للسلطة النازية يطيعون الأوامر بدون تفكير أم كان لديهم دافع شخصي دفعهم للتواطؤ في ارتكاب الابادة الجماعية ضد اليهود؟
فكانت هذه التجربة بسيطة، صنف ميلجرام المشاركين المتطوعين في الاختبار على أنهم “معلمون” وطلب منهم استخدام مستويات مختلفة من الكهرباء لـ”صعق” أحد “الطلاب” إذا أجاب بشكل خاطئ على سؤال. وعند “الصعق”، كان يُبث صوت مسجّل يصوّر الطالب وكأنه يتألم ويصرخ. ولكن في الحقيقة، لم يكن أحد يتعرض لأي صدمات بل كانت فقط افتراضية لتهيئ تجربة واقعية للمشتركين. وكان الهدف من التجربة معرفة ما إذا كان المعلّم سيُطيع تعليمات شخصية ذات سلطة، متجاهلًا سلامة الطالب ومشاعره وتعبيراته عن الألم. وأظهرت النتائج أن جميع المعلّمين وصلوا الى مستوى 300 فولت من الصدمات الكهربائية.وكان من المفاجئ أن 65٪ من المتطوعين استمروا في “صعق الطلاب” حتى 450 فولت،وتلك جرعة كانت بإمكانها قتل المتعلم إن كانت حقيقية.
من المثير للانتباه أن تلك التجربة التي تم تنفيذها من أكثر من ستين عام تعرض أجابة لسؤال يداهمنا حتى الان. وبسبب هذه التجربة استطعت أن أجيب على سؤالي وتأكدت أن هناك لحظة ما يتحول بها الامتثال الى تواطؤ. وذلك لأن المشاركين قرروا بكامل ارادتهم أن يرفعوا شدة الصدمة فقط لأن شخصا ذا سلطة – وهو المختبر في هذا السياق– أمرهم بذلك. لقد التزم المعلّمون حرفيًا بتعليمات المختبر، رغم المخاطر والأذى المحتمل الذي قد يصيب الشخص الآخر ويمكن أن نقول أن هذا هو المعنى الصريح للتواطؤ. واعتقد القائمين على الاختبار أن 35٪ من المعلّمين الذين لم يُعطوا أقصى شدة من الصعقات استجابوا لصوت ضميرهم عندما سمعوا صراخ الطلاب. وبما أن نسبة صغيرة فقط من المشاركين استجابت لضميرها، فإن هذه النتائج مقلقة، لأنها توحي بأن البوصلة الأخلاقية للفرد يمكن في بعض الأحيان أن لا يُعتمد عليها في منع التواطؤ على الأذى عندما يقرر الإنسان أن يمتثل لأوامر السلطة. ومن المحزن أن المشتركون قرروا أن يلحقوا الأذى بالمتعلم فقط بأمر من شخصية اعتبروها أكثر علمًا ومكانة منهم لأنه لم يكن هناك دافع قوي لكي يدفعهم إلى تنفيذ التعليمات مهما كان حجم الضرر الناتج عنها.
في بعض الأحيان وكما حدث في تلك التجربة، الضمير الفردي وحده لا يستطيع دائمًا الصمود أمام ضغط الخارجي فيصبح من السهل أن يتحول الامتثال الى تواطؤ. ولذلك أنا أعتبر ما فعلته ابتهال في شركة مايكروسوفت هو عمل بطولي. فمن الرغم من تعدد الضغوطات الخارجية ضدها مثل ردة فعل المجتمع وخسارتها لعملها وأيضا تدمير مستقبلها المهني، إلا أن ضميرها لم يسمح لها أن تترك امتثالها بقواعد الشركة أن يتحول الى تواطؤ بممارسات الشركة. كان من الممكن إبتهال أن تكمل عملها بالشركة بدون أي أعتراض فقط لأن هذا ما يتوقعه منها المجتمع و لأن هذا ما يضمن لها مستقبل آمن وأن تتبع أوامر مديريها فقط كما اتبع “المعلمين” أوامر المختبرين في التجربة. لكن ابتهال لم تقع ضحية لضغط الامتثال، بل اختارت التمسك بمبادئها والوقوف ضد الأذى حتى وإن كان ذلك على حسابها الشخصي.
وهناك من قد يعتبر ما فعلته ابتهال مجرد محاولة فاشلة للاعتراض والخروج عن النص بلا غاية، ولا يعلمون أن مجرد عدم السكوت هو أكبر دليل على مقاومة الامتثال الذي ما سرعان أن يتحول لتواطؤ. في زمننا هذا، يعتقد الكثيرون أن التعبير عن الرأي والتمسك بالمعتقدات أصبح بلا جدوى وقد نسوا ما قاله المؤلف العربي الشهير غسان الكنفاني: “السكوت عن الحق هو أكبر أنواع التواطؤ، بل هو جريمة في حق الإنسانية.”
بالجانب إلى الضمير، كان هناك عامل أخر منع تحوّل الامتثال إلى تواطؤ وهو تأثر المشتركين بزملائهم في التجربة إذ إن العديد من المشاركين توقفوا عن زيادة شدة الصدمة الكهربائية عندما لاحظوا أن آخرين لم يفعلوا ذلك، مما يعكس مدى سهولة تأثر الفرد بالعوامل الاجتماعية الخارجية في تشكيل سلوكه.