Opinionالقافلة

“مِن الإهداء حتى كلمة “تمت

كتبت‭:  ‬إيمان‭  ‬خروشة‭ ‬

‭ ‬نائبة‭ ‬مديرة‭ ‬تحرير‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية

لَم‭ ‬أكُن‭ ‬أعلمُ‭ ‬أن‭ ‬بإمكان‭ ‬المرء‭ ‬الهروب‭ ‬إلى‭ ‬عالمِ‭ ‬الخيال‭ ‬ونسيان‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬حتى‭ ‬عامي‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬أو‭ ‬بمعنى‭ ‬أصّح؛‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬دخلت‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬عالمِ‭ ‬القراءة‭. ‬

أتذكر‭ ‬آنذاك‭ ‬صديقتي‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬رأيتها‭ ‬جالسة‭ ‬محتضنة‭ ‬لكتاب‭ ‬ما‭ ‬وكأنه‭ ‬جليسها‭ ‬الوحيد،‭ ‬غير‭ ‬عابئة‭ ‬لتواجدنا‭. ‬

كنت‭ ‬أتعجب‭ ‬من‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬تركنا‭ ‬وترك‭ ‬أحاديثنا‭ -‬التي‭ ‬ظننتها‭ ‬شيّقة‭- ‬لقراءة‭ ‬كتاب‭ ‬ما‭ ‬حتى‭ ‬ظننتها‭ ‬شخصًا‭ ‬مملًا‭. ‬ولكن‭ ‬أُثبَتَ‭ ‬إليّ‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬النقيض‭ ‬حتى‭ ‬بت‭ ‬أشبهها‭.‬

‭ ‬أدركتُ‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬أن‭ ‬القراءة‭ ‬بمثابة‭ ‬عالم‭ ‬خياليّ،‭ ‬يربطه‭ ‬بالواقع‭ ‬خيطٌ‭ ‬رفيع‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬رؤيته،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬الشعور‭ ‬به،‭ ‬فقط‭ ‬يمكن‭ ‬ملاحظة‭ ‬النفس‭ ‬وهي‭ ‬أكثر‭ ‬نضجًا‭ ‬وأكثر‭ ‬تفعُمًا‭ ‬بالخبرات،‭ ‬لنستنتج‭ ‬أن‭ ‬القراءة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭.‬

قد‭ ‬ترى‭ ‬شخصًا‭ ‬جالسًا‭ ‬في‭ ‬بوتقته‭ ‬الخاصة‭ ‬وبين‭ ‬يديه‭ ‬كتاب،‭ ‬تحسبه‭ ‬هادئ‭ ‬وأنت‭ ‬لا‭ ‬تعلم‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬عن‭ ‬السكون‭. ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هادئ‭ ‬للناظر،‭ ‬وداخله‭ ‬براكين،‭ ‬سابح‭ ‬في‭ ‬خياله‭ ‬غير‭ ‬مدرك‭ ‬لما‭ ‬يحدث‭ ‬حوله؛‭ ‬غير‭ ‬مدرك‭ ‬للوقت‭. ‬

بِتُّ‭ ‬ابتسم‭ ‬حينما‭ ‬أرى‭ ‬أحدهم‭ ‬محتضنًا‭ ‬روايةٍ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬للمحاضرة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬‮«‬الباص‮»‬‭ ‬أثناء‭ ‬طريقنا‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬ذهابًا‭ ‬وإيابًا‭. ‬

أو‭ ‬حينما‭ ‬أرى‭ ‬شقيقتي‭ ‬الصغرى‭ ‬مُفعمة‭ ‬بحبًا‭ ‬للكتب‭ ‬لا‭ ‬أعلم‭ ‬مصدره‭ ‬ولكنني‭ ‬أسعد‭ ‬بتواجده،‭ ‬أو‭ ‬حينما‭ ‬استرق‭ ‬السمع‭ ‬لمحادثة‭ ‬بعض‭ ‬الأصدقاء‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬حديثة،‭ ‬ويتوقف‭ ‬الوقت‭ ‬للحظات‭ ‬حينما‭ ‬أرى‭ ‬مشهدًا‭ ‬لأمٍ‭ ‬مصطحبة‭ ‬أبناءها‭ ‬إلى‭ ‬معرض‭ ‬الكتاب‭.‬

أعجب‭ ‬أحيانًا‭ ‬مِن‭ ‬ماهية‭ ‬الوقت،‭ ‬كيف‭ ‬يُحسَب؟‭ ‬كيف‭ ‬يمُر‭ ‬ونحن‭ ‬غير‭ ‬عابئين،‭ ‬بل‭ ‬وكيف‭ ‬يغلبنا‭ ‬الملل‭ ‬أحياناً‭ ‬فنتمنى‭ ‬مروره‭ ‬ضجراً؟‭ ‬

ولكن‭ ‬عزيزي،‭ ‬أنت‭ ‬في‭ ‬عالمِ‭ ‬القراءة‭ ‬وعالمِ‭ ‬الخيال‭ ‬لا‭ ‬تُفكِر‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ولا‭ ‬تنتظر‭ ‬مروره،‭ ‬بل‭ ‬تتمنى‭ ‬إيقافه‭. ‬تتمنى‭ ‬الولوج‭ ‬داخل‭ ‬الصفح‭ ‬وتحطيم‭ ‬ما‭ ‬يفصلك‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭. ‬

أحيانًا،‭ ‬حين‭ ‬انتهي‭ ‬مِن‭ ‬كتابٍ‭ ‬ما،‭ ‬أتمنى‭ ‬محادثة‭ ‬الكاتب‭ ‬لأسأله‭ ‬عن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬للأبطال‭ ‬بعد‭ ‬مفارقتي‭ ‬لهم،‭ ‬وأحزن‭ ‬لذلك‭ ‬وكأن‭ ‬فارقني‭ ‬عزيز،‭ ‬وحين‭ ‬شاركت‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬إحدى‭ ‬صديقاتي،‭ ‬اعترفت‭ ‬إليّ‭ ‬أنها‭ ‬ينتابها‭ ‬الشعور‭ ‬ذاته‭ ‬وتهاجمها‭ ‬الأفكار‭ ‬ذاتها‭.‬

فعلمت‭ ‬أني‭ ‬لست‭ ‬وحدي‭.‬

لست‭ ‬وحدي‭ ‬مَن‭ ‬يرتبط‭ ‬بالكتاب‭ ‬وتنشأ‭ ‬بينهما‭ ‬علاقة‭ ‬صداقة‭ ‬قوية،‭ ‬لست‭ ‬وحدي‭ ‬مَن‭ ‬يشبه‭ ‬مراحل‭ ‬علاقات‭ ‬البشر‭ ‬بعلاقات‭ ‬الكتب‭. ‬

بدايًة‭ ‬مِن‭ ‬رؤيتنا‭ ‬للكتاب‭ ‬على‭ ‬رف‭ ‬إحدى‭ ‬المكتبات‭ ‬العتيقة،‭ ‬فيجذبنا‭ ‬إليه‭ ‬كما‭ ‬يجذبنا‭ ‬الفضول‭ ‬إلى‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬شخصٍ‭ ‬بعينه‭ ‬ويسمح‭ ‬لنا‭ ‬اقتناءه‭ ‬التعرف‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬ما‭ ‬ينجم‭ ‬داخله‭.‬

رحلتُنا‭ ‬مع‭ ‬الكتب،‭ ‬وانسجامنا‭ ‬معها،‭ ‬أشبه‭ ‬برحلتنا‭ ‬مع‭ ‬البشر‭ ‬وارتياحنا‭ ‬مع‭ ‬أحدهم‭ ‬دونًا‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭ ‬بدون‭ ‬سبب‭ ‬واضح،‭ ‬قد‭ ‬ينسب‭ ‬البعض‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تلاقي‭ ‬الأرواح‭ ‬مِن‭ ‬قبل‭. ‬

لا‭ ‬أعلم‭ ‬صحة‭ ‬ذلك‭ ‬القول،‭ ‬ولكنه‭ ‬يغلب‭ ‬عليّ‭ ‬أثناء‭ ‬القراءة‭. ‬لذلك،‭ ‬تمنيت‭ ‬في‭ ‬صغري‭ ‬أن‭ ‬أدخل‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬أدخلني‭ ‬بعض‭ ‬الروائين‭ ‬بها،‭ ‬أن‭ ‬أسعدهم‭ ‬كما‭ ‬سَعِدت‭ ‬وأجذبهم‭ ‬إلى‭ ‬أنقى‭ ‬ما‭ ‬يكون‭.‬

بعد‭ ‬بضعة‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬ولوجي‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬تيقنت‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬قد‭ ‬يُربي‭ ‬الإنسان‭ ‬ويعلمه‭ ‬ما‭ ‬يجهله،‭ ‬يأخده‭ ‬من‭ ‬يديه‭ ‬كطفلٍ‭ ‬صغير؛‭ ‬مِن‭ ‬أول‭ ‬الإهداء‭ ‬حتى‭ ‬كلمة‭ ‬الشُكر،‭ ‬مثلما‭ ‬يأخذه‭ ‬القارئ‭ ‬وهو‭ ‬غريبٌ‭ ‬عنه‭ ‬مِن‭ ‬مكتبة‭ ‬ما‭ ‬وحتى‭ ‬رف‭ ‬مكتبة‭ ‬المنزل‭.‬