Arts and CultureFeaturedالقافلة

من الجنوب إلى الشمال

 

تحليل: مريم البرنس

 تُعد رواية موسم الهجرة التي خطّها الكاتب السوداني الطيب صالح أحد الروايات التي تصوّر التأثير النفسي الطويل المدى  للاستعمار على حياة الأشخاص المختلفين، ابتداءً من أولئك الذين خضعوا للسيطرة المباشرة التي فرضها المُستعمر بجنده وجيشه وسطوته السياسية، انتهاءً إلى أولئك الذين ضمّتهم بريطانيا تحت جناحها بُحجة التنوير والتحضّر

  تدور القصة حول “مصطفى سعيد” الذي وُلد بالتزامن مع الاستعمار البريطاني في ١٨٩٨ والذي يقص قصته “الراوي” الذي سبق له العيش في بريطانيا.”مصطفى”.. الشاب الطموح والنابه الذي ينتقل من بلدته في السودان حيث الظروف المعيشية المتواضعة إلى رحاب بريطانيا عن طريق سيدة التقاها في السودان ساعدته على السفر

يستسيغ “مصطفى” الفكر الغربي ويتبنّاه فيعمل محاضرًا في إحدى الجامعات البريطانية مروّجًا للقيم التي صار يعتنقها

  يبدو في بادئ الأمر أن مصطفى أو “م.س” كما سيشّار إليه لاحقًا، قد استقر على هويته وانتقى لنفسه ما تبتغي، فصار يتنقل بين حسناوات بريطانيا يغويهنّ ببشرته الداكنة و”سحره” الأجنبي إلى أن انتحر بعضهن بسببه

وفي الأخير يتزوج من “جين موريس”.. إمرأة عنود لا تلقي بالًا لما يظن أو يرى

 ذاك الجزء يعكس ما يدور في ذهن “مصطفى” عن الاستعمار، إذ أن ملاحقته للفتيات البريطانيات على وجه الأخص مُستغلًّا اختلاف مُحيّاه وتميّز سماته يرمز إلى نوع من أنواع الانتصار الضمني الذي يستلذ به البطل ويغيظ به الرجل الأبيض الذي سلبه شيئًا كثيرًا ما يشبه الشرف والعِرض .. الأرض

    تُقتل جين موريس في أحد الأيام فيُشار إلى “مصطفى” بأصابع الاتهام ويُسجن على إثر الحادث سبع سنوات ثم يعود إلى بلده توّاقًا لما يحمله في ذاكرته عنها. عاد إلى “السودان” يحمل في جوفه كل الأضداد.. الشمال والجنوب، الصقيع والحرّ، الأبيض والأسود، المُستعمِر والمُستعمَر

  أول أمارات التيه الناتج عن معاينة ومعايشة الشمال والجنوب بكل تفاصيلهما تتجلّى في علاقة “مصطفى” بالرواي، والذي اتفق البعض على أنه و”مصطفى” تجسيد للنقيضين اللذين يتصارعان داخل النفس المتزعزعة الحيرى التي خلقها الاستعمار

  بينما يبدو “مصطفى” هادئًا مُستكينًا أغلب الوقت، تتنازع الراوي الأفكار وتُمزّقه ما بين الأصالة وما دونها من صور وأشباه، فيثور ويهدأ ثم يعود فيسخط ليحط من قدر كل شيء كدراسته للشعر، ما يمثله جدّه وجذوره، ومخاطر الاستعمار على المدى البعيد. كلاهما رد فعل مختلف ظاهريًا لما يشهده ويختبره في البلدة، ولكن في النهاية يتراءى كلاهما محطمًا مشتتًا على السواء

  ظل “مصطفى” يعيش صراعاته في غربته الذاتية التي لم تنته حتى وفاته

 ففي الغرب لم يجد ضالته لأنه قد علم أنه يعيش فيه غريبًا ولو درّس قيمهم ألفًا لذا التجأ للوطن تارة أخرى لتزداد وحشته وتتعمق وحدته

 لقد سلب الغرب منه ما هو أكثر من الأرض والوطن… سلبه الغرب شيئًا من نفسه وحقيقته.. أفقده حياته البائدة والحالية والآتية. حمل “مصطفى” في عقله النابه كل شيء ففرغت روحه من كل شيء حتى صارت خاوية على عروشها

  بينما على الجانب الآخر كان يقبع الراوي بمشاعره المحتدة وأفكاره المتزاحمة

إن عقدته الأصلية كان سببها خياله وذاكرته .. فقد كان يُمنّي نفسه بأطلال الماضي ولا يذكر من الوطن إلا الدفء وخيالات الطفولة.. ولكنه سرعان ما ارتطم بالواقع. ازدرى العديد من الأشياء والعادات ولكنه في ذات الوقت كان يحب بلدته ويحدّث نفسه بأنه ينتمي لها. راودته الأفكار وأعيته المقارنات حتى أنه لشد ما اضطرب، استوى لديه الشمال والجنوب وتوّحدت عنده الوجوه والأجناس حتى صارت الفروق ظاهرية

في ختام ملحمي .. يتزوج “ود الريس” من إمرأة رغمًا عنها، فينتهي الأمر نهاية مأساوية تقتل فيها “حسنة” زوجها ثم تقتل نفسها

تتفاوت ردود فعل الجموع فمنهم من يهلع ومنهم من لا يكترث ومنهم من يفرح، كزوجة “ود الريس” الكبيرة التي أثلج صدرها الحادث وشفى غليلها من زوجها. يُعتبر ذلك الحادث نقطة تحوّل للراوي الذي وإن كان سابقًا يتأرجح بين السخط والرضا أو الحنق والسكون، صاراليوم ثائرًا وِحِرًا

  كانت ردة فعل الراوي على الحادث هي ذروة ارتباكه وانفجار غيظه المكتوم بين جوانحه، فمنذ البداية وهو لا يلقي لومًا ثقيلًا على الاستعمار إذا أنه يميل لتسفيه آثاره: “إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أو آجلاً، كما خرج قوم كثيرون عبر التاريخ من بلاد كثيرة. (…) سنتحدث لغتهم ، دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل . سنكون كما نحن ، قوم عاديون ، وإذا كنا أكاذيب ، فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا”

  في نبرة الراوي شيء من لوم يقع على السكان المقموعين

 لربما تكون تلك فكرة يلقيها الطيب صالح في منتصف الرواية يوحي بها بأنه بعض أشكال الهلاك صنعها أصحابها. وإحدى الأمارات هو الحادث الذي وقع في منزل العروس المغصوبة ليلة زفافها

 ينتاب الراوي خليط من المشاعر تجاه “مصطفى” الذي أوصاه على أولاده واستودعه مفتاح منزله. يدخل ليكشف حقيقة “مصطفى” الذي رجّح الناس أنه قد ازدرته التماسيح.. الرجل الذي بالفعل قد قتل “جين موريس” لأنها بالنسبة له كانت الغرب الذي يمقته ويعشقه في آن واحد

 كانت تهينه وتزدريه.. تحرجه وتعصيه. يصف “مصطفى” شعوره وزوجته في تلك اللحظة التي يقرر قتلها إذ غمرهما شعور ب “حب” من نوع ما.. وكأن كلاهما يكلف بالآخر في قسوة مميتة

 تمامًا ك”مصطفى” و”جين” كان الجنوب والشمال. الشمال مولع ب “سحر” الجنوب حد التمّلك.. فصار شغله الشاغل أن يكسره ويذله حتى يخضعه ويستأثر به

 أما الجنوب فيرنو لمعذّبه في عجب وبغض.. يطارد ما يسقمه حتى تدمى قدماه فإذا دان له غريمه حسب أن في القبول مفازة.. ليجد الواهم في الأخير أنه قد خسر كل شيء وانتصر عليه حقده حتى قتله. وهكذا انتهى “مصطفى سعيد”

  رغم خوف الراوي الشديد من أن ينتهي به الأمر “أكذوبة ” ك”مصطفى”، يكاد يلقى نفس المصير حين يقرر أن يسبح من الضفة الجنوبية في إتجاه الشمال.. فيقف في المنتصف عاجزًا مرهقًا .. لا يقدر على الرجوع ولا يقوى على بلوغ الشما

يرى في السماء أسرابًا من الطيور تقفو نفس وجهته فيتساءل:” هل هي رحلة أم هجرة؟” .. لا يجيبه أحد ولا هو يجيب نفسه فيظل عالقًا في المنتصف بين الجنوب والشمال .. يستغيث الناس