القافلة

هُنا القافلة

كتبت: مريم البرنس
مديرة تحرير قسم اللغة العربية

في عام ٢٠١٩، وبعد فترة من المناقشات والمفاوضات بيني وبين أصدقائي، لحقتُ بركب القافلة. كان أوّل ما يشغلني هو كيف يتوافق عملي هناك مع عدد التسليمات المطلوبة وكمية الكتب والأوراق الواجب قراءتها في قسم التاريخ؟ أتُسلمني القراءة إلى قراءة والورق إلى ورق والكتابة إلى كتابة؟ ترددتُ كثيرًا خاصةً مع علمي بأن مراسلي القافلة هم طلبة الجامعة، وسوف يتم تقييمهم على أساس مقالاتهم التي سأراجعها معهم وأتأكّد من صحة المعلومات وسلامة المصادر وسرعة التسليم. ولكنني انضممتُ على أية حال، لتبدأ رحلة رائعة امتدت لثلاثة أعوام على خُطى القافلة.

توالت الأسئلة من بعدها، وكان أهمها: لماذا يقضي الجميع هذا الكم الهائل من الوقت بين جدران غرفة الأخبار؟

هي غُرفة واسعة، تصطف الحواسيب على امتداد جدرانها وفي أركانها القريبة والبعيدة. بها ستائر تُغلق عند اللزوم وتنفتح لتكشف ما يجري في الداخل من عمل وتدريس وقليل من المشاحنات وبعض التوتر وكثيرٍ من الضحك. في الجانب الأيمن تقع أريكة صغيرة يرتاح عليها المحررون أو رؤساء التحرير في ليالي النشر الطويلة المُرهقة. تحكي الجدران ليالي القافلة من خلال الصور التي يظهر فيها بعض أقرب أصدقائي وبعض ألطف من قابلت والبعض ممن لم ينضموا أبدًا للـ قافلة، إلّا أنهم قضوا من الوقت في غرفة الأخبار ما يجعلهم أحد أفرادها. في مواجهة الباب يقف باب آخر على بعد بضعة أمتار يُفضي إلى غرفة التخزين أو ما نسميه بـ الأرشيف الذي يضم بضع مقتنيات دائمة للغرفة كسجادة الصلاة أو دُمية أحدهم المُفضّلة أو حتى الأغراض المنسية. كما تحوي تلك الغرفة الضيّقة مئات النُسخ من الأعداد السابقة وعددًا لا يُحصى من ساعات النميمة. في البدايات، عندما كنت مُحررة، كنتُ أطرق الباب في ضَجَر لآخذ إيمان، رئيسة التحرير حاليًا والتي كانت آنذاك مديرة تحرير القسم العربي، لكوب من القهوة في الحديقة، فأراهم يسارعون لإنهاء العدد وقبل أن أهمّ بالهرب، تجذبني إيمان للداخل فأنهمك في تعديل الأخطاء الإملائية والنحوية أو أتناول معهم الغداء قبل الرحيل. ولكنني ظللتُ أتسائل، لماذا يصر الجميع على تمضية كل هذا الوقت بين جدران غرفة الأخبار؟

بمرور الوقت، بدأتُ أتلمّس طريقي نحو الإجابة؛ فبعد أن كان المراسلون مجرّد طلاب أحاول فقط جعلهم يسلّمون مقالاتهم في الميعاد المطلوب، صرتُ أشعر أنني أُساهم في تكوين صاحب المعلومة وصائغها، أُعدُّ للآتي حُماة الحقيقة التي انطمست تحت غُبار الأكاذيب ودِثار الزيف. فصرتُ أحدد مواعيدًا للقاء من يحتاجون للمساعدة في الكتابة وأحاول حصر المشاكل الشائعة عند الأغلبية لكي يتعلّم منها الجميع. صار يعتريني الضيق عندما لا يتعلم أحدهم شيئًا، وأزهو فخرًا عندما يكتب مقالة جيدة في العدد الجديد. بدأتُ أُقارن أداء كل واحد في الماضي والحاضر لأرى مدى الشوط الذي قطعه، فأبتسم تلقائيًا حين أرى أسبوعًا به أخطاء طفيفة وأتجهّم عندما يحدث العكس. ولكن أفضل ما يحدث هو عندما يأتيني من كانوا يمقتون الكتابة باللغة العربية ويسألونني: “إمتى هتنشروا المقالة العربي بتاعتي؟” أو: “أنا نفسي أكتب عربي كويس، نفسي أتعلّم”. أحيانًا في ختام الفصل الدراسي يراسلني البعض في امتنان لأنهم أخيرًا قد تعلّموا الكتابة باللغة العربية، وهذا ما حفر للقافلة ولغرفة الأخبار – على قلّة الوقت الذي أمضيته بها – في وجداني رُكنًا خاصًا تكوّن برويّة. وإن أجمل الأشياء، لو يعلم الناس، هي تلك التي تتشكّل على مهل.

هكذا، صارت قدماي تأخذانني رويدًا رويدًا نحو غرفة الأخبار. بعد إنهاء المحاضرات أجدني أتجه نحو مبنى عبد اللطيف جميل، فأسير في الردهة القصيرة وأنعطف يسارًا لأقطع الردهة الطويلة ثم أخيرًا أتوجّه يمينًا لأطرق باب الغرفة، ولكن هذه المرّة لكي أقضي الوقت هناك بكامل إرادتي. كنا قد اعتدنا أن نطبع نسخة أوّلية لتعديل الأخطاء الباقية في المحتوى وفي التصميم، وكانت للمطبوعات الورقية دومًا جذبة لم تنكرها حواسي أبدًا. لذا وجدتُ نفسي آخذ قلمًا وأُصحّح الأخطاء الأخيرة قبل الطبعة النهائية. تأتي صبيحة الأحد فأمرُّ ثانية لأجد النُسَخ الجديدة في الحوامل الخشبية في مختلف أنحاء الحرم الجامعي، فأسحب واحدة وأمضي، وأرجع لأسحب اثنتين للذكرى وأهم بالرحيل، ثم أعود لواحدة أخرى لعل إحدى النسختين تبلى وأقرر الذهاب للمرّة الأخيرة، لكنني ألتف عائدة لألتقط عددًا رابعًا في حال أراده أحدهم في الطريق. لتلك النُسخ رونق لم أزل أكلف به، ولم أزل أُخرِج بعض النسخ من مكتبتي كل فترة لأقلّب الأخبار بين صفحاتها وأتذكر كيف كانت الحياة قبل النُسخ الإلكترونية.

في أحد الأيام أثناء عملي في المكتبة، تطلّب مني العمل فرز الصور في الأرشيف، وبينما كنتُ أتصفّح الصور وقعت عيناي على صورة قديمة ربما تعود للخمسينيات لشاب من الجامعة يرتدي حُلّة أنيقة بينما يقرأ إحدى مقالات القافلة، فلم أملك إلا أن أسأل ما إذا كان بوسعي أخذ صورة بهاتفي لأحتفظ بها. تزامن هذا مع احتفالية مرور مائة عام على تأسيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وعلى تأسيس جريدة القافلة. هنا.. علمتُ بأنني قد أحببتُ القافلة وبدأُت أُدرك التراث الذي صرتُ جزءًا منه بدون قصد مني ولا نيّة. تُراث امتد لمائة عام من الكتابة والصحافة والأخبار والتقارير والمعلومات والصور والتوثيق والطباعة… مائة عام من القافلة.

مرّ وقت أكبر وتقدّمتُ لأكون مديرة تحرير قسم العربي، ومن هنا صار ارتباطي بـ القافلة شيئًا يتعدى حدود الجامعة والدراسة، وأصبحت القافلة جزءًا لا يتجزأ من رحلتي الأكبر في الحياة. صراحةً كنتُ أطمح لكي أفتح الباب باستخدام بطاقتي بدلًا من أن يفتحه أحدهم لي من الداخل، لأنه فقط رئيس التحرير ورؤساء قسمي العربي والإنجليزي هم من يُسمح لهم بذلك. وكنتُ أتطلع لليالي النشر الطويلة التي كنت أهرب منها سابقًا، وكنت أنتظر ساعة الراحة على الأريكة الصغيرة ومئات الصور التي سوف تحكي تلك الليالي. لكن الوباء كان قد حلّ بالفعل، وآُغلِقَت البلاد والمطارات والجامعة.. وحتى غُرفة الأخبار.

قضينا هذه الفترة نتواصل ونحاول مُحاكاة أجواء غرفة الأخبار عن بُعد، ولكن بلا جدوى. على قدر الإمكان حاولنا إشعار الجميع بأننا أُسرة تُعني بأفرادها واحدًا واحدًا، ولكنني أسررتُ في نفسي تلك الأمنية لو أن يعود كل شيء كما كان ولو لشهر واحد، فيه يعرف الطلبة الجدد ما هي القافلة.

ولكن برغم كل شيء، تظل هي القافلة. هنا تعلّمتُ الصحافة مع الطلاب وهنا دوّنتُ أفكاري على الصفحات الورقية. هنا كتبتُ وحررتُ وأرشدتُ وأُرشِدتُ ونصحتُ ونُصِحتُ، هنا تأففتُ ضجرًا وهنا اتقدّتُ حماسًا وعملًا، هنا قابلتُ أفضل من عمل في الصحافة والإعلام وأفضل من سوف يعمل في الصحافة والإعلام، هنا بدأت كثير من الأشياء الرائعة ومن هنا امتدت صداقات وعلاقات أعدّها الأفضل. هنا تنتهي رحلتي كرئيسة تحرير القسم العربي بـ القافلة، وهنا تبدأ رحلتي كأحد الأفراد الدائمين بها. هنا صرتُ أحد أفراد عائلة كبيرة تبلغ فوق المائة عام، لا يصل بين أجيالها المتعاقبة إلا الكلمات، وما أوثقها من صِلة. يومًا ما نعود لغرفة الأخبار ونلتقط تلك الصور التي فاتتنا هذا العام، لأن هنا سيكون دومًا مُجتمع أصحاب الكلمة والقلم والفكرة، ولأن ببساطة… هنا القافلة.