Home PageOpinionالقافلة

يا أيها المُدَّثِر

كتبت: مريم البرنس
مديرة تحرير قسم اللغة العربية

كل شيء بعيد إلّاك، هكذا عرفتك منذ الصِغَر. حينئذٍ، كان قلبي، مثلي، لا يعرف فصيح الكلام ولا بليغ القول، وكذلك لم يكن عقلي رحبًا فيسبر غور قلبي أو يُبلِّغ عنه مكامنه. فكنت أنت بكل بشريتك التي رأيت فيها نفسي، خير ما يصل بين خافقي ولُبّي، فأدرك بك ومعك الله.

صاحبتني كثيرًا وكأنكَ هنا، تسير بي نحو الحقيقة، كمن يقبض على راحتي طفل حائر أو رحّال ضال فيطمئنه. كما بدأتَ معهم منذ الصفر، هناك في مكة حين كانوا يجهلون، بدأتَ معي ومع كل من حاول أن يصل. رسول لا تنقضي مهمته أبدًا، ولا ينفك يؤوب كل مرّة وكل يوم، يصاحب كل منا على حدة فينزع عنه غشاءه لينتشله من ظلماته، ولكل منا جاهليته.

نحن لا نكمل معك المسير الذي بدأته منذ ألف وربعمائة وعشر سنة، بل إنك تبدأ معنا المسير منذ الصفر كل يوم. وكما عهدناك دومًا، ناجٍ فائز عند الله، لكنك مازلت تشد الرحال وتهاجر أميالًا لكي تصل إلينا بينما يستعصي علينا السير ساعة كي ننجو حتى بأنفسنا.

لطالما تعلَّمنا عن اختبارك للحياة التي تجرّعتَ منها ما يهوِّن علينا نحن ما نرى فيها. فهذا ينصح أخيه أن اصبر واحتسب فقد أبيك أو ولدك أو زوجك أو أهلك، فالرسول وُلِد يتيمًا وفقد ولديه وزوجته وعمّه عندما كان في أمس الحاجة. وذاك يشد عضد مُغترِب يعول أسرته فيُذكِّره كيف ترك الرسول أرضه ومتاعه مُكرهًا لأجلنا. وهذا أذاه الأقربون فذكر كيف كذّبوك وحرموك وحاصروك. وذاك يألم فيرى الرسول وقد أُدميت قدماه إثر العدوان في الطائف ليُنادي ربه: إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي. وذاك يستنكر الناس لين قلبه فيواسيه الرسول مثلما واسى صغيرًا مات عصفوره، وآخر يستهجن ذريته من الإناث فلا يرى نفسه خير من أبا فاطمة. ومن ذلك مما لا يُحصى، ذاك رسول يعيش معنا أيامنا ويحس بأتراحنا وكمدنا، فيعاود اختبار فواجعه، يقصّها علينا فنجد فيها العزاء والصبر.

ولكن هنالك شيء لم أتعلمه عنك، إنما تعلمته منك. فبعد أن اجتاح العالم شيء من الخوف، صرنا جميعًا نختبر ما أسميناه “نوبات الهلع”. فيها يرجف البعض ويبكي البعض الآخر، فيها يُغشى على الناس، أو يلتقطون أنفاسهم بمشقة. وحينما زارني ذلك الخوف وعضة الصقيع تلك، التحفت بغطائي أنشد بعض الدفء في قيظ الظهيرة! لأسمع في أذني صوت يأتي من جوفي: {يا أيها المُدَّثِر} ثم {يا أيها المزمل}، تتوالى الأصوات حتى تتمثل لي مشهدًا لا ريب فيه، رأيتك بعد نزل الوحي في منزل خديجة مرتجفًا أن: “زَمّلوني، دَثِّروني”. هنا شعرت أنك لم تختبر معنا فقط جلل المصاب وعظيم البلايا، إنما تمر معنا حتى بآلامنا الخفية وعبراتنا المنسية التي يطويها الظلام ويغشاها الصُبح. كنت معي في حُزني الذي لم يره أحدًا سواي، كان الله، وأنت، ثم أنا.

لقد هلعنا حين رأينا من الحياة وجهًا آخر نهرب منه ولا نحبه: وجه الحقيقة. حقيقة أنه لن تجري الرياح كما تشتهي السفن دومًا، وأنه ما من شيء حتمي ومضمون، وأنه الحياة قد تنقلب رأسًا على عقب بين ليلة وضحاها، وأنه الخوف زائر ثقيل لا بد وأن يجثم على صدورنا حين من الدهر، في غفلة من الزمان. هذا ما أصابنا حين عرفنا واحدًا فقط من وجوه الحقيقة، وهذا ما يحدث لنا كل مرّة ينكشف لنا وجهًا جديدًا. عندما نفقد عزيزًا، عندما يهجرنا صاحب، عندما نرسب في امتحان، عندما لا تأتينا تلك الوظيفة، عندما ينتهي زواج، عندما يرفضنا ما نسعى إليه، وعندما نخشى الآتي.

وإن كان هذا ما اعترانا في لحظة إدراك رأينا فيها قبس من ضوء وهَّاج قد يحرق وجوهنا إن رأيناه، فكيف كان حالك حين رأيت من الحقيقة كلها؟

كيف كان خوفك وارتباكك ورجفتك ودوارك؟ كيف كان حالك؟

عندما نهلع ننزوي ونختبئ ونهرب بحبوب مهدئة نجرعها أملًا في ساعات من نوم هنيء ينجينا مما نختبر، بينما أُمِرت أنت أن تستكمل المسير في حينها فناداك ربك أن: {قم فأنذر}، فكيف إذًا.. كان حالك؟

تعلّمتَ من بعدها، وعلّمتنا، أنه إن لم يكن به عليك غضب فلا تُبالي، وطمئنتَ صاحبك في الغار: {لا تحزن إن الله معنا}.

هئنذا في يوم مولدك حاولت أن أعرفك أكثر، فجئتني أولًا.. مُقتسمًا حزني معك، تحمل في إحدى يديك مؤازرة وفي الأخرى حلًّا. في يوم ميلادك أتيتني أنت بالهدية.

رسول الله، محمد بن عبد الله، رحمة الله للعالمين، عظيم على خلق عظيم، كريم فوق كل كريم، صلى الله عليك وسلام عليك وعلى آلك وصحبك إلى يوم الدين.

إليك مني ومن أُمتك الصلاة والسلام والعرفان يا من نهفو إليك ونجتمع عليك ونلوذ وننتصر بك.