القافلة

ليلة من عُمر الزمان

كتبت: مريم البرنس
مديرة تحرير قسم اللغه العربية

أمس، في يوم الثالث من أبريل، خرج حُكّام مصر يختالون في موكبهم في جولة قصيرة. خرجوا من مرقد لمرقد، وفي المنتصف.. أحيوا فينا مصر… مسحوا على جبينها وأزالوا عنها تُراب القُبح والجهل والنُكران، فأشرق وجهها مرّة أخرى، وتجلّت في خيالنا واضحة وسار سرّها في صدورنا قرعًا على الضلوع ورجفة في الأبدان. بلى، إنني البارحة أُقرُّ أنني قد رأيت مصر لأول مرة في حياتي.

كيف تراني عرفتها وأنا لم أشهد حقيقتها بعيني أبدًا؟ ربما لأنها هي كالفِطرة، نولد بها ونكبر معها ونعتاد عليها دون أن نحس وجودها. أمس امتد من جسدي شريان اتصلّ بالنيل وسافر في الوقت آلاف السنين للخلف، فكأنني والأقدمين سويًا نسير في الزمن غير عابئين بما يمليه المنطق الجاف من قوانين رديئة، قوانين لا تعرف مصر.

أمس كان في عيني الفيصل الذي فرّق المُغيّب عن الحاقد، فمن كان مغيّبًا انكشف عنه الغطاء قولًا واحدًا لحظة مسير الملوك والملكات في أرضهم التي أكرموها فاستثنتهم بالخلود. أما الذي لا يرى، ومن لا يريد أن يرى، فهو شأن القلوب، عليها أقفالها، لا تنفتح ولو بعد مائة عام. وإنني، من دافع المؤازرة لا الامتهان، آسف على كل شخص لم يرى بعيني قلبه مصر البارحة. تلك الروح التي لا تعرف مُستقرّها ومستودعها وأصلها ومنبعها هي روح ضالة، آمل أن تجد يومًا ملاذها.

أمس، نفض الحاضر غبار سنين عجاف، فيها كادت تنطمس ملامح الوطن تحت أفكار همجية قبيحة تكره الحق وتعمى عن الجمال. أفكار جعلت النهار ليلًا ثم انتشلت من الليل نجومه فصار ظلامًا دامسًا نتلمّس فيه الطريق ونتخبط بين جدران صلبة قاسية أدمت أجسادنا وأرهقت أرواحنا التي كلما سعت تنشد الجمال لا تجد إلا غيوم كثيفة ووجوه دميمة.

كان البعض يتسائل، أهذه هي حقًا مصر التي نعرفها؟

بلى، إن هذه هي مصر التي نعرفها. مصر التي شهدناها قبلًا كانت هي مصر التي لا نعرفها، إنما هذه هي مصر التي تعرفها وأرواحنا، تلك التي بحثت عنها عندما أنكرت حواسنا صورة مصر الزائفة التي ظننا حينها أنها كل ما نعرف.

إنها ليلة في عُمر التاريخ لا من عُمره. لأن مصر، حقًّا لا مجازًا، هي وحدها تُحدد متى بدأ التاريخ وأين ينتهي، فلا يصح القول أن ليلة من عُمر مصر تساوي ليلة من عمر التاريخ الذي تصنعه وتحويه. الحق أن مصر والوقت متزامنان بل ومترادفان… إنها إذًا ليلة من عُمر الزمان.

فلتصدقوا أنكم جزء من هذه الحضارة، جزء من أول دولة حقيقية عرفتها الأرض، جزء من أهم حضارة شهدتها البشرية، جزء من هذا الكيان الذي يُعرِّف الأشياء لا يتعرَّف بها. صدقوا وإن لم ترغبوا فلا بأس، وإن لم يصدق الآخرون لا بأس، سوف يكون هناك دومًا من يؤمن ومن يفهم. تمامًا كما آمن وفهم اثنان وعشرون رجلًا وامرأة يومًا ما، فلم تنساهم مصر في خبايها عندما كانوا للعالم نسيًا منسيًا، ولم تنكرهم عندما ساروا في شوارعها تارّة أخرى يرفلون تلك المرّة في ثياب ملكية نسجها التاريخ وحُلّي مسبوكة على ضفاف الزمن.

يومًا ما تناقشت مع البعض فأخبروني: إن الآثار المصرية في الخارج أفضل حالًا إذ يتم الاعتناء بها أكثر. يومًا آخر سُئلت إذا ما كنت أخجل من أنه البعض من غير المصريين هم من يقومون على رعاية الآثار. حتى إذا استيأست وصلني الجواب أمس. فإلى كل عامل ومساعد وفنان وموسيقي ومصوّر وأثري ومسؤل ..مصري، شكرًا لمنحي جوابًا وافيًا، وشكرًا لإسكات الجميع بالنيابة عني. شكرًا لأنكم منحتموني سببًا آخر- فوق جبال من الأسباب- لأن أحب مكاني وبيتي أكثر وأكثر وأكثر.

لكِ يا مصر السلامة ولمن أحبكِ العِزة والفخر والكرامة. أما من أراد بكِ غير هذا، ولمن رآكِ بغير صورة، فله كل الأماني بأن يصحو يومًا من سُباته، كما استيقظ أمس قبله من نام آلاف السنين. رُبما.. يومًا ما.

لتبقَ مصر أبدًا ما بقت الأرض.