Opinionالقافلة

الوداع الأصعب

كتبت: نوران العشري 

مديرة‭ ‬التحرير‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية

أعدها‭ ‬تجربتي‭ ‬الأولى‭. ‬لم‭ ‬يقترب‭ ‬الموت‭ ‬مني‭ ‬قبلاً‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭. ‬ودعت‭ ‬أحبة‭ ‬كثيرين‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬وخسرت‭ ‬بعضهم‭ ‬بالموت‭ ‬لكن‭ ‬أشهد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كباقِ‭ ‬المرات‭..‬أبدًا‭. ‬

في‭ ‬التاسع‭ ‬من‭ ‬فبراير‭ ‬كنت‭ ‬معها‭. ‬نضحك‭ ‬ونغني‭ ‬ونتسامر‭. ‬حدثتني‭ ‬عن‭ ‬أمنيتها‭ ‬في‭ ‬رؤيتي‭ ‬مذيعة‭ ‬وقلت‭ ‬لها‭ ‬أنني‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬الإذاعة‭ ‬لا‭ ‬التليفزيون‭ ‬وأجابت‭ ‬‮«‬زي‭ ‬بعضه‭..‬أشتري‭ ‬راديو‭ ‬وأسمعك‭.‬‮»‬‭ ‬

في‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬فبراير‭ ‬تلقيت‭ ‬رسالة‭ ‬أن‭ ‬وافتها‭ ‬المنية‭ ‬بعد‭ ‬ثلاث‭ ‬وعشرين‭ ‬ساعة‭ ‬ونصف‭ ‬من‭ ‬رؤيتي‭ ‬لها‭ ‬للمرة‭ ‬الأخيرة‭. ‬

أكتب‭ ‬كلماتي‭ ‬الآن‭ ‬وأنا‭ ‬لست‭ ‬على‭ ‬اقتناع‭ ‬كامل‭ ‬بأنها‭ ‬رحلت‭. ‬أعلم‭ ‬أني‭ ‬لن‭ ‬أراها‭ ‬ثانية‭ ‬وأنها‭ ‬لن‭ ‬تعود‭ ‬لكن‭ ‬يرفض‭ ‬جزء‭ ‬مني‭ ‬تصديق‭ ‬هذا‭ ‬وتقبله،‭ ‬فجدتي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كسائرهن‭ ‬ووداعها‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬مماثلًا‭ ‬لوداع‭ ‬آخر‭. ‬

أعاتبها‭ ‬أحيانًا‭. ‬قرأت‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬الروح‭ ‬تظل‭ ‬متمسكة‭ ‬بالحياة‭ ‬حتى‭ ‬تنتهي‭ ‬من‭ ‬تأدية‭ ‬رسالتها،‭ ‬حتى‭ ‬ترى‭ ‬كل‭ ‬أحبتها‭ ‬وحتى‭ ‬تكمل‭ ‬كل‭ ‬مهامها‭ ‬الدنيوية‭..‬وأتساءل‭. ‬ألم‭ ‬تتمنى‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬تراني‭ ‬مذيعة؟‭ ‬ألم‭ ‬ترد‭ ‬أن‭ ‬تحضر‭ ‬حفل‭ ‬تخرجي؟‭ ‬أشعرت‭ ‬فعلا‭ ‬أن‭ ‬مهامها‭ ‬قد‭ ‬انتهت‭ ‬وأننا‭ ‬سنكون‭ ‬بخير؟‭ ‬كيف‭ ‬استسلمت‭ ‬للموت‭ ‬وهي‭ ‬تعلم‭ ‬أننا‭ ‬لازلنا‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬وجودها‭..‬

في‭ ‬سرعة‭ ‬انطلقنا‭ ‬أنا‭ ‬وإخوتي‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬اجتمعت‭ ‬العائلة‭ ‬لتوديعها‭. ‬أراهم‭ ‬جميعًا‭ ‬باكيين‭ ‬غير‭ ‬مصدقين‭ ‬وأسير‭ ‬وسطهم‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬أُعلق‭ ‬وماذا‭ ‬أقول‭. ‬أعزيهم‭ ‬أم‭ ‬أتقبل‭ ‬التعازي؟‭ ‬أنهمر‭ ‬في‭ ‬الدموع‭ ‬أم‭ ‬أصمد‭ ‬قوية‭ ‬لأجلهم؟‭ ‬بقيت‭ ‬حائرة‭. ‬أبكي‭ ‬لثوانٍ‭ ‬وأقوم‭ ‬بعدها‭ ‬للوقوف‭ ‬بجانب‭ ‬الآخرين‭ ‬وتقبل‭ ‬التعازي‭. ‬

يحدثني‭ ‬الجميع‭ ‬ليطمئنوا،‭ ‬أجيب‭ ‬ب‭ ‬‮«‬أني‭ ‬بخير‮»‬‭ ‬لكن‭ ‬هل‭ ‬أنا‭ ‬فعلا‭ ‬كذلك؟‭ ‬هل‭ ‬أشعر‭ ‬أني‭ ‬بخير‭ ‬أو‭ ‬أني‭ ‬سأكون‭ ‬بخير‭ ‬مرة‭ ‬أخرى؟‭ ‬أنا‭ ‬أيضًا‭ ‬لا‭ ‬أعلم‭.‬

عندما‭ ‬مرضت‭ ‬طمأننا‭ ‬الجميع‭. ‬قالوا‭ ‬ستكون‭ ‬بخير‭ ‬فيمر‭ ‬الكثير‭ ‬بما‭ ‬مرت‭ ‬به‭ ‬ويتلقون‭ ‬العلاج‭ ‬ويكونون‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يرام‭. ‬ستُشفى‭ ‬وتصبح‭ ‬في‭ ‬صحة‭ ‬جيدة‭. ‬واليوم‭ ‬يقول‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬موتها‭ ‬خير‭ ‬وراحة‭ ‬من‭ ‬عذاب‭ ‬المرض‭. ‬ألم‭ ‬تقولوا‭ ‬جميعًا‭ ‬أن‭ ‬حالتها‭ ‬يسيرة‭ ‬وأنها‭ ‬لن‭ ‬تعاني‭ ‬ألمًا؟‭ ‬لماذا‭ ‬يصر‭ ‬البشر‭ ‬على‭ ‬الإدعاء‭ ‬بأشياء‭ ‬يعلمون‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬حقيقية‭ ‬حتى‭ ‬يجعلونا‭ ‬نشعر‭ ‬بالارتياح؟‭ ‬ولماذا‭ ‬نقوم‭ ‬نحن‭ ‬بتصديقهم‭ ‬متعلقين‭ ‬بكل‭ ‬الآمال‭ ‬فقط‭ ‬لأننا‭ ‬أضعف‭ ‬من‭ ‬تقبل‭ ‬الحقيقة‭.‬

أتذكر‭ ‬كلامها‭ ‬كله‭ ‬والذي‭ ‬لم‭ ‬يخلُ‭ ‬معظمه‭ ‬من‭ ‬المزاح‭. ‬أتذكر‭ ‬توصياتها‭ ‬وحديثها‭ ‬عن‭ ‬الماضي‭ ‬واختلاف‭ ‬الأزمان‭. ‬‮«‬داحنا‭ ‬كنا‭ ‬بايعين‭ ‬بيت‭ ‬كبير‭ ‬أربع‭ ‬أدوار‭ ‬بستين‭ ‬جنيه‮»‬‭ ‬كان‭ ‬مثالها‭ ‬الأشهر‭ ‬عندما‭ ‬تتعجب‭ ‬من‭ ‬فرق‭ ‬العملات‭ ‬والأسعار‭  ‬بين‭ ‬زمانها‭ ‬ووقتنا‭ ‬هذا‭. ‬أتذكر‭ ‬غنائنا‭ ‬سويًا‭ ‬ونحن‭ ‬نحضر‭ ‬وجبة‭ ‬لندعو‭ ‬العائلة‭ ‬للاجتماع‭ ‬وقولها‭ ‬لي‭ ‬‮«‬انتي‭ ‬ليكي‭ ‬في‭ ‬الأغاني‭ ‬القديمة‭ ‬زيي‭.‬‮»‬‭ ‬أتذكر‭ ‬خوفها‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مكروه‭ ‬وأرى‭ ‬دمعتها‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬نزلت‭ ‬سريعًا‭ ‬فور‭ ‬شعورها‭ ‬أننا‭ ‬نمر‭ ‬بأزمة‭ ‬ما‭. ‬أتذكر‭ ‬القرط‭ ‬التي‭ ‬أهدته‭ ‬لأمي‭ ‬عند‭ ‬ولادتي‭ ‬وعندما‭ ‬كبرت‭ ‬أوصتني‭ ‬بعدم‭ ‬التفريط‭ ‬فيه‭ ‬حتى‭ ‬أنجب‭ ‬بنتًا‭ ‬وأهديه‭ ‬لها‭. ‬‮«‬بس‭ ‬أنا‭ ‬مش‭ ‬عايزة‭ ‬أتجوز‭..‬تفضلي‭ ‬لابساه‭ ‬برضو‮»‬‭ ‬كان‭ ‬الحوار‭ ‬المتكرر‭ ‬بيننا‭. ‬

مميزة‭ ‬هي‭ ‬علاقة‭ ‬الأجداد‭ ‬بالأحفاد‭. ‬بها‭ ‬حرص‭ ‬وخوف‭ ‬وحب‭ ‬الآباء‭ ‬لكن‭ ‬بدلالٍ‭ ‬مفرط‭. ‬يرى‭ ‬الحفيد‭ ‬من‭ ‬الجد‭ ‬جانبًا‭ ‬واحدًا‭ ‬فقط‭ ‬وهو‭ ‬الجانب‭ ‬المليء‭ ‬بالحنان‭ ‬ولذلك‭ ‬تبقى‭ ‬الذكرى‭ ‬الوحيدة‭ ‬لهم‭ ‬هي‭ ‬ذكرى‭ ‬حب‭ ‬ووفاء‭. 

‮«‬لو‭ ‬كنت‭ ‬عارف‭ ‬ان‭ ‬هي‭ ‬دي‭ ‬المرة‭ ‬الأخيرة‭…‬مية‭ ‬مية‭ ‬كانت‭ ‬هتفرق‭ ‬في‭ ‬الوداع‮»‬‭ ‬

إن‭ ‬كنت‭ ‬أعلم‭ ‬أنها‭ ‬المرة‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬أراها‭ ‬فيها،‭ ‬لضممتها‭ ‬بشدة‭. ‬كنت‭ ‬اتخذت‭ ‬لها‭ ‬صورًا‭ ‬كثيرة‭ ‬حتى‭ ‬تؤنسني‭ ‬حين‭ ‬أفتقدها‭. ‬كنت‭ ‬سجلت‭ ‬حديثنا‭ ‬واستمعت‭ ‬لصوتها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬أشتاق‭ ‬للحديث‭ ‬معها‭. ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬أعلم‭ ‬أنها‭ ‬تعاني‭ ‬ألمًا‭ ‬وأن‭ ‬المرض‭ ‬سيتغلب‭ ‬عليها‭ ‬رغم‭ ‬تأكيدها‭ ‬لنا‭ ‬أنها‭ ‬بخير،‭ ‬لكنت‭ ‬فعلت‭ ‬ما‭ ‬يلزم‭ ‬لتخفيف‭ ‬الألم‭ ‬عنها‭. ‬لكننا‭ ‬لا‭ ‬نعلم‭. ‬لا‭ ‬ننتبه‭ ‬لكل‭ ‬الإشارات‭ ‬المرسلة‭ ‬والتي‭ ‬أرادت‭ ‬تحذيرنا‭ ‬بأن‭ ‬الوداع‭ ‬قريب‭. ‬نضمن‭ ‬وجود‭ ‬الأشخاص‭ ‬أو‭ ‬نرفض‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأنهم‭ ‬سيرحلون‭ ‬حتى‭ ‬يرحلوا‭ ‬بكل‭ ‬هدوء‭ ‬دون‭ ‬اخطارنا‭ ‬بشئ‭. ‬فسلامٌ‭ ‬على‭ ‬أرواح‭ ‬تركت‭ ‬يومًا‭ ‬أثرًا‭ ‬فينا‭ ‬وتركت‭ ‬الآن‭ ‬عالمنا‭. ‬